إعداد: الكاتب د /صلاح الحسيني
تُعد كربلاء من أكثر المدن رمزًا للحزن والوجدان في الذاكرة الدينية الشيعية، حيث ارتبطت باسم الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) وواقعة استشهاده في العاشر من محرم سنة 61 هـ. ومع ذلك، فإن التساؤل عن البعد التاريخي والميثولوجي لهذا الحزن يدفعنا إلى البحث في جذور أقدم تعود إلى الحضارات التي سبقت الإسلام، وبالتحديد إلى الطقوس التي كانت تُقام في بلاد آشور وبابل. فهل كانت كربلاء مسرحًا لطقوس حزينة قبل الإسلام؟ وهل لطبيعة الأرض والتقاليد السومرية والآشورية أثر في تكوين هذا المزاج الحزين؟
أولًا: كربلاء في الجغرافيا الآشورية
لم تُذكر كربلاء باسمها الحالي في النقوش الآشورية المعروفة، إلا أن موقعها الجغرافي كان جزءًا من السهول الجنوبية لبلاد بابل، قرب مدن دينية كبرى مثل بورسيبا ونفر وبابل. وتشير الدراسات اللغوية إلى أن اسم "كربلاء" قد يكون مشتقًا من "كرب إيل" أي "معبد الإله"، وهي صيغة مألوفة في اللغات السامية القديمة مثل الأكادية والآشورية.
ثانيًا: طقوس تموز في الحضارات القديمة
في الحضارة السومرية والبابلية، وُجدت طقوس حزينة تُقام سنويًا لوفاة الإله تموز (ديموزي)، راعي الزراعة والحياة، الذي يُقتل ويُبكى عليه كل عام، ثم يُبعث مجددًا رمزًا للخصب والحياة.
أهم مظاهر تلك الطقوس:
بكاء النساء في المعابد، لا سيما معبد الإلهة عشتار.
إقامة مواكب حزينة، أحيانًا تُمارَس فيها طقوس جلد ذاتي رمزي.
تكرار القصائد والنصوص الرثائية المعروفة باسم "المراثي السومرية".
هذه الطقوس كانت تجري في شهر تموز، ولاحقًا ظلّ هذا الاسم يُطلق على شهر الحزن في التقويم العبري والعربي.
ثالثًا: تشابه الرمزية بين تموز والحسين
رغم اختلاف الدين والسياق، يلاحظ بعض الباحثين وجود رموز مشتركة بين تموز والحسين، أبرزها:
الرمز تموز الحسين
القتل المفاجئ نعم نعم
البكاء الجماعي نعم نعم
الحزن السنوي نعم نعم
العودة الرمزية (البعث/الثورة) نعم نعم (في مفهوم الخلود في الذاكرة الشيعية)
الفرق الأساسي أن تموز هو إله أسطوري، بينما الحسين شخصية تاريخية حقيقية، إلا أن الذاكرة الجماعية للأمم تميل دائمًا لتكرار الأنماط الشعورية عبر الزمن، ولو بأشكال مختلفة.
رابعًا: كربلاء بعد الإسلام
عُرفت كربلاء بعد واقعة عاشوراء كأرض مقدسة، وبدأت طقوس الحزن تأخذ طابعًا جماهيريًا خلال العصر العباسي، ثم تطورت في العهد الصفوي والعثماني لتشمل:
مواكب اللطم والبكاء.
قراءة المراثي والقصائد.
إعادة تمثيل المعركة (التشابيه).
زيارة الأربعين.
وقد أشار بعض المفكرين إلى أن هذا الحزن المتجذر في أرض الرافدين ربما وجد في كربلاء مناخًا نفسيًا وجغرافيًا مهيئًا له منذ القدم.
خامسًا: الطقوس بين الاستمرارية والانقطاع
لا يمكن القول إن طقوس الحزن على تموز استمرت بشكل مباشر حتى طقوس عاشوراء، ولكن هناك ما يُسمى بـ**"الاستمرارية الثقافية غير الواعية"**، وهي انتقال المشاعر والتقاليد عبر الأجيال دون وعي مباشر. وهذا ما يراه الأنثروبولوجيون في طقوس كربلاء؛ حيث اجتمعت:
أرض مقدسة قديمة.
ذاكرة حضارية حزينة.
حادثة تاريخية مأساوية (استشهاد الحسين).
خاتمة
ليس من المؤكد أن كربلاء كانت مركزًا للأحزان في عهد الآشوريين، لكن المؤكد أن أرض الرافدين حملت دائمًا طقوس الحزن والبعث والموت والخلود. وحين وقعت مأساة الطف، انبثقت طقوس عاشوراء في أرض مهيّأة نفسيًا وثقافيًا لاستقبال الحزن الجماعي، لتعيد إنتاج المأساة بشكل يتجاوز الزمان والمكان.