هل جربت أن تدقق بكلماتك وعباراتك وأسلوبك في حياتك اليومية، إن كنت ممن ينبرون للنقد ويكثرون منه أو لا؟
من البدهي أن ندرك أن للنقد وجهين، فمنه البناء ومنه الهدام،
وبعض الناس يتغذون على الهدام منه بوعي أو بدون إدراك حقيقي لمغازي عباراتهم التي يسلخون بها وجوه المحيطين بهم يمينا ويسارا، وبعضهم يعتمدون على البنّاء منه بغية تحسين أنفسهم ومعطيات البيئة المحيطة بهم وتطوير الإمكانيات من حولهم.
يظن بعض الناس أن النقد المنهجي مصطلح خاص بالدراسات الأدبية، لكنه حاضر في الدراسات الإنسانية كافة، لا سيما النقد الثقافي الذي يعتمد على ثقافة الناقد وسعة اطلاعه وقدرته على استحضار ما يملأ الفراغ ويتواءم مع الحاضن البيئي المحيط.
يعد النقد الثقافي من أهم المفاهيم النقدية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الحداثة في ساحتي الأدب والنقد، ويقال إنه أشبه برد فعل على اللسانيات البنيوية وعلم السيمياء ونظرية الجمال، التي تعنى بالجانب الشكلي للأدب أو الجانب الفني والجمالي، وتغض الطرف عن المحيط الثقافي الذي احتضن النص الأدبي عند ابتكاره.
إعلان
فانصب اهتمام النقد الثقافي على دراسة الأنساق الثقافية عامة، والمضمرة خاصة، وتحليلها وفقا للظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية المحيطة بصاحب العمل الأدبي وبالنص الذي أبدعه.
النقد الثقافي بين الرفض والقبول
حين بدأ نجم النقد الثقافي بالسطوع في الأوساط النقدية العربية أحدث جدلا عميقا ممتدا واسع الأطراف، فقد دعا بعض النقاد لقطيعة النقد الأدبي المعهود سابقا والاستعاضة عنه بالنقد الثقافي وما يضمه من آليات ومفاهيم، استنادا إلى كونه أكثر حرية واتساعا من سابقه في ما يذهب إليه من زوايا وأفكار وآراء عند مقاربة النصوص الأدبية والنقدية.
فانقسم النقاد والدارسون بين داعم ومتقبل لآليات النقد الثقافي وإمكانية إحلاله محل النقد التقليدي، وبين رافض محافظ على ما نشأ عليه من مفاهيم يأبى دخول جديد موسوم بالثورة على ما سبق وترسخ من مفاهيم وأصول نقدية علمية في التراث البلاغي والنقدي والأدبي على حد سواء.
وقد اعترى مفهوم النقد الثقافي كثير من الغموض، فانبرى كثيرون ممن تبنوا وجهته إلى تحديد مفهومه العام، وتعريف آلياته وطرائق مقاربته للأعمال الأدبية، بغية توضيحه وعرضه كما يستحق وينبغي، وبهدف تقريبه للرافضين له من جهة أخرى.
يختلف مفهوم الثقافة من مجال إلى آخر، فهو في علم الاقتصاد مختلف عما هو عليه الحال في مجال الأدب والنقد، ولأن النقد الثقافي القائم على مفهوم الثقافة الواسع المتشعب وصل إلى الأوساط العربية مكتمل الأدوات، وبوصفه منهجا عاما كان الخوف من الاقتراب منه واستيضاحه وتبنيه أكبر، فقد تراءى للبعض أنه جاء لتقويض جزء من الأصالة والتراث اللذين يعنى بهما المحافظون من المثقفين والنقاد ودارسي الأدب.
النقد الثقافي ومقاربة الأدب
يهتم النقد الثقافي بداية بالنص المدروس، لكنه لا يغفل عن النظر إلى المؤلف ومقاصده ولا ينسى دور القارئ أو المستمع في إنتاج المعنى المراد من النص، ويعنى بالسياقات التي تيقول كيه إم نيوتن في كتابه التاريخ الأدبي ومناهجه: "العمل الأدبي جزء مباشر من المحيط الأدبي… إن العمل الأدبي الخاص عنصر تابع، ومن ثم لا ينفصل عمليا عن المحيط الأدبي، وهو يحتل مساحة محددة في هذا المحيط، وتحدده مباشرة تأثيرات هذا المحيط، عندها سيكون من العبث أن نعتقد أن العمل الذي يحتل مساحة في المحيط الأدبي يمكن أن يتجنب تأثيراته المباشرة".
يمكن للنقد الثقافي أن يقارب أي خطاب سواء أكان أدبيا عاليا رفيع المستوى أم شعبيا بسيطا، أم مبتذلا، فهو يعنى بتفكيك عرى النص العقلية وتحليل وشائجه الفكرية وإسنادها إلى مصادرها الحقيقية المتأثرة بالجو الثقافي من حولها، ولا يهمل النقد الثقافي بوصفه منهجا نقديا الجوانب الفنية والبلاغية والجمالية للنص، بل يهتم بما تحمله من رسائل وما تستند إليه من أفكار ومعتقدات، وما دفعت به دفعا من مظاهر ثقافية وبواعث حضارية منبثقة من الحاضن المحيط بالنص وصاحبه ومتلقيه.
وفي ذلك، يرى الغذامي واصطيف -في مقالهما "نقد ثقافي أم نقد أدبي"- أن الدراسات النقدية استنفدت جميع طاقاتها في دراسة جوانب البلاغة والجمال، مما جعلها قاصرة أمام الحشود الثقافية والمعرفية والتغيرات الثقافية، لذا صرنا بحاجة للانفتاح على مفهوم جديد متمثل بالنقد الثقافي. لكنهما يغاليان قليلا فيما يذهبان إليه، فالنقد عامة مفهوم واسع بخطوات حرة ومتشعبة، والنقد الأدبي ذو أدوات متفرعة تنبثق من مجالات مختلفة من جوانب الحياة.
فالنقد الثقافي يقوم على مقاربات متعددة الاتجاهات، تستند إلى التاريخ، وتحاكي الواقع الاجتماعي، وترصد التطور السياسي، وتواكب الحالات النفسية والأهداف المضمرة في الأنساق الثقافية المتنوعة، والمختفية وراء اللاوعي اللغوي والفني والجمالي.
حتضن كلا من النص والمؤلف والمتلقي، لذلك يعد النقد الثقافي نقدا أيديولوجيا فكريا اجتماعيا عقائديا… واسع النطاق.