جامعات للتفريخ والبيع…

كاتب 3 3/07/2025 - 01:55 PM 34 مشاهدة
# #


تنتشر كليات وجامعات أهلية كما تنتشر محلات الشاورما، واجهات لامعة، يافطات ضخمة، وأسماء رنانة تكاد تقول لك: "سَجِّل الآن وخذ شهادتك غدًا!"

قد تعتقد لأول وهلة أنك في شارع جامعي بأمريكا أو أوروبا، لكن لا تنخدع بالمظهر الخارجي. في الغرب، الجامعة تُبنى بعد دراسة عشر سنوات، وتُخطط حسب حاجات المجتمع، وتُخضع لمعايير صارمة في الجودة والاعتماد الأكاديمي. 
أما عندنا؟ !!!!!!!
يكفي أن تمتلك رأس مال، ومعارف "مؤثرة"، وربما بعض الأرصفة الفارغة… لتصبح بين ليلة وضحاها "رئيس جامعة مؤسس"!

في أمريكا، قبل أن يُسمح لأي مؤسسة بإطلاق اسمها على جامعة، تمر بجولات تفتيش واعتماد، ولجان تقييم، وتُحاسب على جودة التدريس، ونسبة التوظيف بعد التخرج، وعدد الأبحاث المنشورة. أما في العراق، فالعملية أقرب إلى افتتاح كشك لبيع العصائر: رخصة، لافتة، واستثمار سريع… لتبدأ ماكينة "الشهادات تحت الطلب".

في جامعة أمريكية، الأستاذ يُعامل كباحث ومفكر، يُمنح وقتًا كافيًا للبحث والتطوير، وتُحدد له ساعات تدريس تتيح له التفرغ العلمي، ويخضع لترقيات علمية حقيقية.
 أما في جامعاتنا الأهلية؟!!!!! فالأستاذ يُطلب منه تدريس 20 ساعة في الأسبوع، وتصحيح الامتحانات، وتنظيم الأنشطة الطلابية، وغسل الصحون إن تطلّب الأمر، كل ذلك تحت ضغط المستثمر، الذي قد يكون سابقًا تاجر عقارات أو وكيل موبايلات.

في الغرب، الطالب يدخل الجامعة ليُعاد تشكيل وعيه، ليُواجه الفكر بالنقد والتحليل، ويُشجع على طرح الأسئلة. أما في جامعاتنا، فالطالب غالبًا ما يدخل وفي جيبه قائمة أسئلة السنوات السابقة، وعلى مكتبه تقسيط الأقساط، وفي ذهنه يقين أن النجاح مضمون طالما أن القسط مدفوع.

في أمريكا، هناك جامعات ترفض الطلبة رغم ارتفاع عدد المقاعد، حفاظًا على النوعية. أما في جامعاتنا، فكل طالب مرحّب به، بل قد تتصل بك الإدارة لتقنعك بالتسجيل، وتمنحك خصمًا بمناسبة "القبول المبكر" أو "أسبوع الطالب السعيد".

تخيّل في جامعة أمريكية، أن تقرر الإدارة فجأة نقل قسم القانون من شيكاغو إلى لوس أنجلوس لأن "الجو هناك ألطف"! هذا خيال. أما في العراق، فالأمر حقيقي تمامًا، وقد يتم نقل قسم كامل من محافظة إلى أخرى أثناء جلسة عشاء بين مستثمرين.

أما قرارات التعيين؟ ففي الغرب، تُبنى على لجان علمية، مقابلات، سِيَر ذاتية. 
بينما في جامعاتنا، تُبنى على… صِلة القرابة، وعدد أصدقاء فيسبوك، ومدى الولاء للمستثمر العظيم!

النتيجة: خريجون بلا كفاءة، جامعات بلا روح، وأساتذة يُعاملون كما يُعامل موظفو العقود، يُنقلون من كلية إلى أخرى كما تُنقل صناديق البضائع. بينما في جامعات الغرب، يتم استقطاب العقول من العالم، لا "تدويرها" في سوق التعليم المحلي.

الحق يُقال: التعليم الأهلي في العراق لا يُدار بعقلية تربوية، بل بعقلية "مول تجاري". الجامعة لا تسأل: ماذا نحتاج كبلد؟ بل تسأل: ما هو التخصص الذي يُقبل عليه الطلبة؟! ما هو الأكثر ربحًا؟ من يستطيع أن يدفع أكثر؟

أمريكا تبني جامعات لتقود الاقتصاد. نحن نبني جامعات لتقود العروض الترويجية على إنستغرام.

الغرب يعتبر الأستاذ الجامعي قدوة، ومصدرًا للإلهام. نحن – بكل فخر – جعلناه موظفَ تسجيل و"خدمة عملاء أكاديمية".

باختصار: نحن لا نُسيء للتعليم فقط، نحن نُهينه، نُفرغه من مضمونه، ونحوله إلى مَسخرة وطنية تُنتج شهادات بلا علم، وخريجين بلا مهارات، وأساتذة بلا كرامة.

وإذا استمر هذا المسلسل الهزلي، فقد نحتاج قريبًا إلى وزارة جديدة تُسمى:
"وزارة التجارة التعليمية… والمدارس الربحية"!

فيا وزارة التعليم، ويا أصحاب القرار (إن وُجد قرار):
التعليم ليس سوبر ماركتًا… والشهادة ليست سلعة… والجامعة ليست مشروعًا للتصدير السريع.
وإذا لم تُعاد هيبة الجامعات، فإننا سنبقى نخرّج سنويًا دكاترة في الفراغ… ومهندسين في البطالة… وفلاسفة في انتظار الراتب.

الدكتور فلاح الفضلي 

حقوق الطبع والنشر © Video IQ