Weather Data Source: 30 days weather Baghdad
بغداد
عاجل

دفء الضيافة.. السياحة في ايران

#
کاتب ١    -      26 مشاهدة
24/12/2025 | 02:03 AM

ستقبلت إيران العام الماضي نحو 7.4 ملايين سائح أجنبي، في مؤشر واضح على تعافي قطاع السياحة بعد جائحة كورونا وبعد سنوات من الصورة غير المواتية التي رسمتها وسائل الإعلام العالمية عن البلاد.
ويؤكد المسؤولون أن إيران باتت اليوم وجهة آمنة وهادئة للمسافرين الدوليين. ووفق بيانات حديثة صادرة عن منظمة السياحة العالمية، حلّت إيران ضمن أفضل 20 وجهة سياحية في العالم خلال الربع الأول من عام 2025، وهو ما يعتبره المسؤولون ثمرة للسياسات الجديدة وجاذبية البلد المتنامية كوجهة متنوعة ومستقرة.

  ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام 

في مقهى دافئ قرب شارع “الثورة”، يجلس توماس مولر، سائح ألماني في الخامسة والأربعين من عمره، يدون ملاحظاته عن العاصمة خلال زيارته الأولى لإيران. ويقول:
“طهران مزيجٌ محيّر، لكنه آسر، من الحداثة والتقليد. في الصباح، وسط الأبراج الشاهقة والازدحام الكثيف، أشعر وكأنني في برلين أو نيويورك. لكن ما إن تدخل البازار الكبير مساءً حتى يخالجك إحساس بأنك عدت مئة عام إلى الماضي”.
يشير توماس إلى السوق التاريخية التي تفوح منها روائح التوابل، وتتلألأ فيها ألوان السجاد اليدوي، وتعلوها ضوضاء الباعة، وهي مشاهد تسحر أي زائر جديد. ويضيف أن كثيرا من أصدقائه في ألمانيا كانوا يرون إيران—متأثرين بالخطاب الإعلامي—بلدا غير آمن. لكنه اليوم يحمل انطباعا مغايرا تماما:
“شعرتُ بالأمان الكامل في طهران وفي كل المدن التي زرتها، والناس هنا ودودون للغاية مع الأجانب”.

يتحدث توماس عن لقائه بعشرات الإيرانيين، ويلفت إلى أن استقبالهم للسياح يحمل قدرا كبيرا من الدفء، حتى لأولئك القادمين من دول تختلف سياسياً مع إيران. ويبتسم قائلا:

“كل من عرف أنني ألماني ذكَر لي ذكرى طيبة مع صديق أو زميل ألماني، أو سألني عمّا إذا كنت أستمتع بزيارتي. هذا المستوى من الضيافة بات نادراً في عالم اليوم”.
ويخلص هذا السائح الألماني إلى أن الصورة الحقيقية لإيران تختلف كثيرا عمّا تعرضه وسائل الإعلام الغربية، وأن الزائر لا يدرك هذا الفارق إلا حين يرى الواقع بعينه.
يشير هذا السائح الألماني إلى نقطة لافتة أخرى قائلا:
“إيران من أغنى دول العالم من حيث الكنوز التاريخية والطبيعية، لكنها لسنوات طويلة لم تستفد بما يكفي من هذا الرصيد الهائل”.
ولعلّ كلامه صائب؛ فإيران التي تمتلك عشرات المواقع المسجّلة على قائمة التراث العالمي لليونسكو—بواقع 28 موقعا تراثيا ماديا و26 عنصرا من التراث غير المادي—تُعدّ إحدى أغنى عشر دول في العالم ثقافيا.
كما تُظهر تقارير منظمة السياحة العالمية أنّ إيران تحتل المرتبة العاشرة عالمياً في عدد المعالم التاريخية القديمة، والمرتبة الخامسة في الجاذبيات الطبيعية. ومع ذلك، فقد أعاقت عوامل متعددة—من ضعف الترويج السياحي، إلى الهواجس السياسية، إلى القيود الداخلية—تطور هذه الصناعة لسنوات طويلة.
يقول توماس: “الآن وبعد إعادة فتح الحدود عقب جائحة كورونا، تملك إيران فرصة ذهبية لتُعرّف العالم بنفسها. فالزيادة البالغة 20٪ في عدد السياح الدوليين خلال العام الماضي دليل واضح على أن إيران تعود مجدداً إلى خريطة السياحة العالمية”.
وينوي توماس قبل مغادرته البلاد زيارة كلّ من مشهد وتبريز. فهو يرغب في استكشاف مختلف وجوه السياحة في إيران: من العاصمة الحديثة، إلى مشهد المدينة الدينية التي تستقبل ملايين الزوار سنوياً، وصولاً إلى تبريز في شمال غرب البلاد، تلك المدينة التي كانت ذات يوم إحدى محطات طريق الحرير. ويرى توماس أنّ تنوّع التجارب السياحية في إيران فريد من نوعه، قائلا:
“نادرا ما تجد بلدا يضمّ أضرحة مقدسة، ومنتجعات تزلج، وغابات خضراء، وصحارى ملتهبة—كأنك تسافر في عدة دول داخل دولة واحدة”.
إنّ هذا الفضول الذي يبديه السائح الأوروبي، بصفته مراقبا من الخارج، يبشّر برؤية واقعية قد تقدّم صورة مختلفة وجديدة عن إيران 2025 لجمهور عالمي واسع.

أصفهان: روعة العمارة… وزوجٌ فرنسي مفتون بها
يكسو ضوء الغروب الذهبي أرجاء ميدان نقش جهان في أصفهان، ذلك الميدان الفسيح المُحاط بالمساجد الفيروزية وقصر عالي قابو وبازار قيصرية؛ ميدانٌ ظلّ لقرون درّة العمارة الإيرانية. 
في زاوية منه يقف جان لوران، 33 عاما، وزوجته ماري، 30 عاما، من باريس، مأخوذين بجمال قبة مسجد الشاه اللازورديّة. كان الزوجان قد استهلا رحلتهما قبل أسبوعين من طهران، وها هما في منتصف جولتهما الإيرانية يصفان أصفهان بأنها “ذروة مجد الفن والثقافة الإيرانية”.
جان، وهو مهندس معماري، يتأمل بدهشة تفاصيل الزخارف والقرميد الأزرق لمسجد الإمام قائلا:
“يكاد لا يُصدَّق أن هذا الكمّ من التناظر والدقة أُبدع قبل أربعمئة عام. رأيتُ عمارة عصر النهضة في أوروبا، لكن أصفهان شيء آخر… فيها روح”.

تومئ ماري، معلمة تاريخ الفن، موافقة وتضيف: “كل زاوية في هذا الميدان أشبه بإطار لصورة مثالية. كأننا انتقلنا إلى عهد الصفويين”. ثم يناولان الكاميرا لأحد السياح ليلتقط لهما صورة وخلفهما مسجد الشيخ لطف الله—صورةٍ ستكون بلا شك أبهى ذكرى من شهر عسلهما في إيران.
هذا الزوج الفرنسي يقول إن إيران طالما كانت على «قائمة الأحلام» لديهما. تروي ماري:
“نحن شغوفان بالتاريخ والثقافة. قرأنا عن إيران كثيراً، من الإمبراطورية الفارسية القديمة إلى قصائد حافظ الغزلية. رؤية كل هذا الجمال عن قرب أشبه بحلم”.
ويبتسم جان متابعا:
“استغرب أهلنا في البداية: لماذا إيران؟ بل إن بعضهم خاف علينا. لكن الآن يتابعون صورنا يوميا عبر مواقع التواصل، وكثير منهم كتب لنا أن نظرته عن إيران تغيّرت، وأنه يفكر في زيارتها يوما ما”.
وقد اختلفت صورة إيران في أذهانهما كثيرا عمّا سمعاه قبل السفر. يوضح جان أنهما سمعا تحذيرات عن صعوبات التأشيرة أو القيود الاجتماعية، لكن تجربتهما كانت مغايرة تماماً
“الحصول على التأشيرة كان سهلا، والناس بالغو اللطف. كلما واجهنا مشكلة لغة أو عنوان، وجدنا من يرشَدنا بصبر وابتسامة”.
وتصف ماري كرم الضيافة الإيرانية بأنه “أكثر ما سيظلّ محفورا في ذاكرتها”. وتحكي بحماسة:
:في كاشان، وأثناء زيارتنا لحديقة فين، التقينا عائلة إيرانية ودعتنا إلى منزلها. لم نصدق هذا الكرم تجاه شخصين غريبين. أعدّوا لنا طعاما محليا لذيذا—لحم وأرز وزعفران رائع. ثم شربنا الشاي وضحكنا كثيراً، بلغة إنجليزية بسيطة وإشارات اليد! لم نختبر شيئا كهذا في أي بلد آخر.
ويضيف جان: “غادرنا منزلهم ونحن نشعر أننا لم نعد غرباء. الجدة دعت لنا بخير وقالت: “إيران بيتكم”. دمعت أعيننا بالفعل”.
كما أثار انتباههما مدى انخفاض تكلفة السفر في إيران. تقول ماري:
“بالنسبة لنا نحن الذين ندفع باليورو، كل شيء رخيص جداً. من الفنادق التراثية الجميلة التي تكلف ثلاثين يورو في الليلة، إلى الوجبات المحلية الشهية التي تكلف بضعة يوروهات فقط”.

صحيح أن تراجع قيمة الريال في الأعوام الأخيرة أثّر على حياة الإيرانيين، لكنه جعل السفر في إيران ميسورا للسياح. يقول جان:
“مرّ أسبوعان على رحلتنا، وما زلنا لم نصرف حتى نصف الميزانية التي خصصناها. ومع ذلك فنحن نشتري الهدايا للجميع وننفق بلا تردد”.
هذا الانخفاض يشكّل، من منظور اقتصادي، فرصة مهمة لإيران؛ فالسياح يضخّون العملة الصعبة ويُنعشون الأعمال المحلية، من الفنادق والبيوت التراثية إلى سائقي سيارات الأجرة والمرشدين السياحيين. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن نسب الإشغال الفندقي في عيد النيروز العامين الماضيين بلغت نحو 90٪، في مؤشر على عودة قوية لحركة السياحة.
بعد أصفهان، يخطط جان وماري لزيارة شيراز ثم يزد. تقول ماري بحماسة:
“لا أستطيع الانتظار لرؤية تخت جمشيد. من أحلام حياتي أن أمشي في أرجاء برسبوليس وأستشعر عظمة الحضارة الفارسية”.
أما جان فيتطلع لزيارة مرقد حافظ الشيرازي:

 


“لا نستطيع قراءة شعره بالفارسية، لكن قيل لنا إن أجواء مرقد حافظ، وهمسات الزائرين ببيوت شعره، تجربة ساحرة بحق”.
ويأمل الزوجان أن تبقى رحلتهما في إيران مليئة بالمفاجآت الجميلة. وحين سألتهما إن كانا سيقترحان إيران وجهةً للآخرين، أجابا معا دون تردد:
“بالتأكيد. يجب أن تكون إيران في مقدمة الوجهات لكل محبٍّ للثقافة. ونحن سنكون أول من يشجع أصدقاءنا على زيارتها”.
يزد: هدوء الصحراء… وسائحة يابانية تبحث عن ذاتها
تتوشّح الأزقة الطينية في يزد بملمس الغروب، ويعمّها صمتٌ عذب لا يقطعه سوى صدى الأذان المتسلّل من مآذن المساجد التاريخية. هذه المدينة، المحصورة بين صحراءين عظيمتين، بعمارتها الطينية القديمة، تأخذ كل زائرٍ إلى أعماق الزمن.
على سطح أحد البيوت التقليدية، تجلس آياكو تاناكا، شابة يابانية في الثامنة والعشرين من عمرها، تحدّق وحدها في أوائل نجوم السماء الصحراوية. آياكو، التي أخذت إجازة لمدة عام لتجوب العالم، تقول إن اختيارها إيران كان أفضل قرار في رحلتها الطويلة:
“كنت أتخيل إيران مثل قصص ألف ليلة وليلة… وحين وصلتُ إلى يزد شعرتُ كأن علاء الدين وشهرزاد خرجا من صفحات الحكايات”.
قبل سفرها، بحثت طويلا عن تجارب النساء اللواتي يسافرن وحدهن إلى إيران:
“كنت قلقة، وعائلتي كذلك. كانوا يتساءلون: هل السفر لامرأة بمفردها آمن هناك؟”
لكنها تضيف مبتسمة: “منذ لحظة وصولي تبدّد الخوف. الناس كانوا لطفاء لدرجة أنني لم أشعر بالوحدة”. زارت طهران وأصفهان، لكن يزد خطفت قلبها:
“لصحرائها سكونٌ عميق لا يشبه شيئا. في لياليها، على سطح الفندق، أشعر أن النجوم أقرب من أي مكان… كأنك تستطيع أن تمد يدك وتقطفها”.
تبدي آياكو دهشتها من العمارة والتراث الثقافي في المدينة. تتجوّل بين البيوت القديمة ذات الأبواب القصيرة والساحات الداخلية، وتشرب الشاي بالزعفران في المقاهي التقليدية. وتقول بحماس عن أبراج الرياح:
“مذهل كيف استطاع الإيرانيون قبل قرون تبريد منازلهم دون أي تقنية حديثة. بالنسبة لي، القادمة من بلد يفيض بالتكنولوجيا، رؤية هذه الحلول البسيطة والفعّالة تُشعرني بعمق المعرفة المحلية هنا”.
كما أسرها معبد الزرادشت في يزد، حيث بقيت شعلة النار المقدسة متّقدة منذ أكثر من 1500 عام:
“هذا الأمر ألهمني كثيرا. إيران ليست مساجد فقط؛ تاريخها احتضن أديانا متعددة عاشت جنبا إلى جنب”.
وتتحدث آياكو بصراحة عن مسألة الحجاب والقوانين الاجتماعية—وهي نقطة كانت تشغلها قبل وصولها:
“كنت أعلم أن عليّ ارتداء الحجاب. توقعت أن الأمر سيكون صعبا، لأنني لم أعتد على ذلك. لكنني فوجئت بأنه يسير. اشتريت شالا ملوّنا وبعض الملابس الفضفاضة. وحتى حين احتجت إلى تعديل الشال قليلا، كان الناس ينبهونني بلطف ودون أي حدة”.
وتضيف ضاحكة: “أصبحت أشعر أن الشال الإيراني جزء من أسلوبي في السفر”،
ورغم احتياطها المعتاد كامرأة تسافر وحدها—كألا تخرج متأخرة ليلا—تؤكد أنها لم تتعرض لأي مضايقة:
“في شوارع يزد وأصفهان شعرت بأمان أكبر مما شعرت به في بعض المدن الأوروبية التي زرتها وحدي”.
أما الطعام الإيراني، فقد وقع في قلبها بسرعة. تقول إنها عشقت (قورمه سبزي وآش رشته)، وتعلّمت أن تطلب دوغاً بارداً قبل الوجبة.
“لكل مدينة في إيران نكهتها الخاصة. في أصفهان أكلت البرياني، وفي شيراز كلم ‌بلو والفالودة. الناس يشرحون لك مكونات الطعام بحب، وكأنهم يقدمون قطعة من ثقافتهم”.

في الليلة الأخيرة من إقامتها، أقام صاحب بيت الضيافة التقليدي عشاء محليا للزوّار الأجانب. جلست آياكو إلى جوار سياح من إيطاليا وكوريا الجنوبية حول مائدة أرضية عامرة بالرز والخورشت. وتقول مبتسمة:
“في تلك اللحظة فهمت معنى فخر الإيرانيين بكرم ضيافتهم. كنا كعائلة واحدة رغم اختلاف لغاتنا”.
وتستعد آياكو لمغادرة إيران باتجاه تركيا لمواصلة رحلتها، لكنها تعترف بأن الرحيل هذه المرة صعب:
“إيران أصبحت جزءا من قلبي. وعدتُ نفسي أن أعود يوما ما—ربما مع عائلتي أو أصدقائي—كي يروا بأنفسهم كم أن هذا البلد جميل وآمن ودافئ”.